إريش فْرِيد الشاعر الذي أحبّ الفلسطينيين وكره الصهاينة – باسم سليمان- الميادين

أطلقوا عليه لقب: “اليهودي كاره اليهود” هكذا نعته الصهاينة ومن يدور في فلكهم، لكنّه أحبّ الحرية والإنسانية وفلسطين؛ إنّه الشاعر اليهودي النمساوي إريش فْرِيد الذي استطاع أن يحرّر دمه اليهودي من سمّ الصهيونية، فتدفقت في شرايينه دماء الإنسانية. ولد إريش في النمسا لعائلة يهودية (1921- 1988) كان ولدها الوحيد وقد تنبأ له أبوه بأنّه لن يعيش طويلًا لإعاقة جسدية كان يعاني منها، لكنّه بدأ كتابة القصائد ما بين الخامسة والسادسة من عمره، ليصبح أيقونة الشعر السياسي في المنطقة المتحدثة بالألمانية في الستينات والسبعينات، وبعدها أصبح رمزًا لشعر الحبّ والعواطف. خسر أباه أثناء تحقيق الغستابو (البوليس السري النازي) معه، أمّا جدته، فقد ماتت في معسكرات الموت. هاجر إلى بريطانيا قبيل الحرب العالمية الثانية بعد أن ضُمت النمسا إلى ألمانيا تحت قيادة هتلر، ولحقت به أمّه إلى بريطانيا فيما بعد، ومن هناك شرع في مساعدة اليهود لكي يهربوا من النازية.

لم يكن فريد يسلّم بسهولة بما يملى عليه من الكبار. وفي أحداث عام 1927 عندما أقدم المتطرّفون اليمينيون في النمسا على قتل العديد من العمال ومن ثمّ برّأ ساحتهم قضاة، وصفهم فرِيد بأنّهم أقرب إلى الجناة. وأمام هذا الحكم الجائر عمّت المظاهرات العمالية فيينا، فتصدت لها الشرطة بعنف، ممّا أدّى إلى مقتل شرطي واحد وسقوط 86 عاملًا. رأى الطفل إريش فريد ذلك بأم عينه، وقرأ المنشورات التي وزّعها الكاتب كارل كراوس على جدران فيينا، فوجد فيها إدانة كارل كراوس لقمع الشرطة. وحدث في عيد الميلاد في تلك السنة أن طُلب من إريش الصغير أن يقرأ قصيدة عيد الميلاد، بعد أن تنبّه معلّمه لفصاحته وقدرته على إلقاء القصائد غيبًا. وعندما صعد إريش إلى المسرح تناهى إلى سمعه بأنّ قائد شرطة فيينا المسؤول عن المجزرة بحق العمال كان بين الحضور. هكذا وقف أمام الجمهور وتكلّم: “سيداتي، سادتي. يؤسفني ألّا أستطيع أن أتلو قصيدة عيد الميلاد. لقد سمعت لتوي أنّ رئيس الشرطة -الدكتور شوبر- بين الحاضرين. لقد كنتُ في شوارع فيينا يوم الجمعة الدامي بين الحاضرين، ورأيت المحفّات وعليها القتلى والجرحى، لذلك لا أستطيع أن ألقي قصيدتي أمام السيد الدكتور شوبر. وبعد أن خرج قائد الشرطة من قاعة المسرح غاضبًا عاد الشاعر الصغير وألقى قصيدة عيد الميلاد.

وضع إريش كتابًا بعنوان: (وكنّا نضحك أحيانًا، ترجمة سمير جريس وصدر عن دار صفصافة لعام 2024) يستعيد به وقفات مميّزة في حياته متأمّلًا فيها، وكيف ساهمت في تشكيل وعيه الناقد للمنظومة الرأسمالية العالمية وللديكتاتوريات أيًا كان مصدرها ولاحتلال بلاد الآخرين حتى لو كان المحتلّون من أبناء جلدته، بحيث أصبح رقمًا صعبًا ومفردًا، لا يمكن ترويضه، فأكثر الكتّاب اليهود الألمان والنمساويين ذهبوا إلى دعم الصهيونية العالمية، فها هو ابن جلدته الشاعر الحساس باول تسيلان لم يستطع أن يسمو كما إرش فريد، فوق مصابه حيث فقد عائلته في محارق أوشفيتس النازية، فذهب إلى أنّ الجنود الإسرائيليين الذين احتلوا سيناء وهضبة الجولان عام 1967 أشبه باليهود الذين قاوموا النازيين؟ في حين كتب إرش فريد ردًا على حرب الأيام الستة قصيدته المسمّاة: (اسمعي يا إسرائيل) المدوية والغاضبة من أبناء جلدته الذين أصبحوا نازيين في تعاملهم مع الفلسطينيين، فيقول:                                                                                          “راقبتم جلاديكم/ وتعلمتم منهم/ الحرب الخاطفة/ والجرائم الوحشية الفعّالة/ وما تعلمتموه تريدون الآن أن تطبقوه/ يا أطفال زمن الظلم/ يا من تربوا في كنفه. أصبحتم مزارعين مهرة/ رويتم الصحراء/ لكنّكم أزحتم/ الفقراء الذين سكنوا هناك قبلكم…أنا لم أرد/ أن تغرقوا في البحر/ ولم أرد أيضًا أن يموت غيركم/ بسببكم في الصحراء عطشًا/ حينما كنتم مضطهَدين/ كنتُ واحدًا منكم/ كيف أظلّ كذلك/ عندما تضطهدون الآخرين”.                                    لقد سبّبت هذه القصيدة الكثير من المشاكل لإريش وصُنف كمعادٍ للسامية، لكنّ هذه الروح الحرّة التي رأيناها في قصيدة؛ اسمعي يا إسرئيل، لايمكن أن تهادن، ففي قصيدة أخرى بعنوان: (تصحيح) كتبها إريش فريد بعد اتفاقية كامب ديفيد، يقول فيها: “كتبوا إليّ/ أنّني -ككاتب- لا يصح أن أطلق على بيجين وزملائه: قتلة/ فأنا نفسي يهودي/ وأعرف ماذا تعني الكلمات/ ويجب أن أعي/ أنّ الوصف ظالم/ تمعّنت في الأمر/ لأنّني ككاتب تعرّفت حقًا على قتلة/ في السجون وبعد قضاء العقوبة/ هؤلاء قتلوا غيرة أو ثأرًا… ككاتب، يعرف معنى الكلمات/ وكيهودي يمسّه الأمر عن قرب/ أشعر أنّه سيكون بالفعل ظلمًا/ إذا لم استخدم كلمة قاتل استخدامًا أدق بعد الآن/ لن أطلق في المستقبل إذًا/ على بيجين ووزيره شامير/ وجنرالاته شارون وإيتان وباوم – والذين يحركونهم من غير اليهود، الذين لا يعيشون في إسرائيل، ولكن غالبًا غربي المحيط- وصف القتلة/ وإنّما فقط/ وصف السفاحين”.

هذا الشعر كمبضع الجرّاح يفكّك المظلومية الصهيونية التي تبنّاها الغرب. ومن هذا التشريح المنطقي ينطلق إريش في نقده لنشأة ما يمكن تسميته بالتابو الإسرائيلي، حيث أنّ أي نقد له سيتهم من قام به بمعاداة السامية! يقول إريش: “منذ أن ارتكبت فاشية هتلر جرائم قتل اليهود، تولّد في أوروبا الغربية شعور جماعي بالذنب له أسبابه المفهومة، وكثيرَا ما أدّى هذا الشعور إلى امتناع المرء عن توجيه أي نقدٍ لليهود، وفي الوقت ذاته فقد ساوى الناس بلا أدنى تفكير بين اليهود والصهاينة. إلّا أنّني أشعر ليس فقط بالتضامن مع كلّ المشردين والمضطهدين الأبرياء، وإنّما أيضًا بشيء من الاشتراك في المسؤولية تجاه ما يرتكبه يهود إسرائيل ضد الفلسطينيين وبقية العرب”.    

هذا الموقف الشجاع قد يُنظر إليه اليوم كأمر مقبول، لكن في تلك الأزمنة، حيث كانت إسرائيل تلقى الدعم غير المحدود من الغرب، فإن موقف إريش فريد كان منارة حقيقية في ظلمات القرن العشرين. يقول المؤرِّخ موشيه تسوكرمان بأنّ موقف فريد كان يتطلّب منه: “شجاعة وجسارة فكرية. إنّنا نعرف اليوم بعد مرور عقود عديدة، ما ارتكبته إسرائيل بحق الفلسطينيين. ومع أنّ انتقاد إسرائيل في ألمانيا ما زال محرمًا على نطاق واسع، فإن ممارسات الاحتلال البربرية لم تعد سرًّا؛ ومن يريد المعرفة، بإمكانه أن يعرف… غير أنّ الوضع آنذاك، عندما كتب قصيدته: (اسمعي يا إسرائيل) لم يكن كذلك إلى حدٍّ بعيد”. 

ينطلق إريش في كتابه: (وكنّا نضحك أحيانًا) من طفولته حيث لم يكن أهله يصدّقون ذاكرته عن تلك السنين الأولى من حياته، لكنّه يسترجع ببساطة، كيف كانت جدّته والخادمة تعطيانه قطعة السكر المكعّبة ليضعها على حافة الشبّاك، لكي يلتقطها طائر اللقلق، بينما يغني إريش: “يا طائر اللقلق، يا أطيب الطيور، امنحني أخًا/ يا طائر اللقلق، يا أفضل الطيور، امنحني أختًا”.

تتنوّع القصص التي يخبرها إريش عن حياته ابتداءً من كلبه الجميل: (شوفتي) وإصابته بأيام الكلب، كما كانت تقول جدته، فقد كان إريش يرى بالكلب شوفتي صديقًا وفيًا وله وجه كالإنسان، على الرغم من معارضة جدته اليهودية، التي كانت تقول له: الإنسان فقط هو من يملك وجهًا! وكانت الجدة تملي قناعتها استنادًا لما نصّت عليه التوراة، لكن كعادة شاعرنا إريش في كشف التناقضات في المعتقدات، كان يناقض جدته، لذلك كانت جدته تسمي المرحلة العمرية التي يمرّ بها إريش؛ بأيام الكلب. يتذكّر إريش بأنّه لم يتعرّف على أبيه بعد أن قُتل على يد الغستابو، فهو لم يره إلّا حليق الذقن، وعندما أعادوه من الاعتقال جثّة هامدة، كانت لحيته البيضاء قد نمت في أيام الحبس، فاختلط الأمر على شاعرنا!

عندما وصل إلى بريطانيا في السابعة عشرة من عمره شرع إريش، وكما يقول بنفسه بالقيام بالأعمال المشروعة وغير المشروعة لتأمين النقود لأبناء جلدته في النمسا، كي يتمكّنوا من الهرب من معسكرات الاعتقال. ومن أعماله غير المشروعة؛ سرقة مواسير المياه من البيوت القديمة التي ستهدم وبيعها!

يتذكر إريش صديقه لازار الصغير ذلك اللاجئ اليهودي في بريطانيا وكيف كان يحلم بأن يسافر إلى فلسطين. كان لازار مقتنعًا بالأفكار الصهيوينة غير أنّه كان من أنصار مارتين بوبر الذي لم يكن يريد طرد الفلسطينيين أو معاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية، بل كان يدعو إلى المساواة والإخاء. حاول إريش وأصدقاؤه أن يشرحوا للازار بأنّ قناعته مجرد وهم، وأنّ وضع الفلسطينيين سيسوء أكثر. لم يقتنع لازار وسافر إلى فلسطين عبر سفينة أقرب إلى النعش. لقد كان لازار يعاني ضعفًا كبيرًا في نظره وللأسف انكسرت نظارته وفي قبرص طلب منهم أحد الجنود البريطانيين أن يتراجعوا؛ أي لازار والمسافرين اليهود إلى فلسطين، لم يستطع لازار تحديد الوجهة المطلوبة، وتقدم نحو الجندي الذي أرداه قتيلًا!

إنّ تأمّل هذه القصص والأحداث التي مرّت في حياة إريش وضمّنها في كتابه: (وكنّا نضحك أحيانًا)، وقد أوردنا بعضها أعلاه؛ وعلى الرغم من قساوتها إلّا أن إريش عرِف كعادته أن يترك باب الأمل مفتوحًا كابتسامة القط تشيشاير في أليس في بلاد العجائب. لم تتحقق أمنيات الطفل إريش بأن يمنحه طائر اللقلق أخًا أو أختًا، لكنّه منحنا شاعرًا لا يقل فلسطينية عن أي فلسطيني آخر، مع أنّه من مواليد النمسا، بريطاني الجنسية، غير أنّه فلسطيني الهوى.

باسم سليمان

خاص الميادين

https://www.almayadeen.net/arts-culture/%D8%A5%D8%B1%D9%8A%D8%B4-%D9%81%D8%B1%D9%8A%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%A7%D8%B9%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%8A-%D8%A3%D8%AD%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86%D9%8A%D9%8A%D9%86-%D9%88%D9%83%D8%B1%D9%87-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%87%D8%A7%D9%8A%D9%86%D8%A9

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑