“عرقٌ متوهّم”: عن تهافت أعذار الصهيونية

باسم سليمان 6 أبريل 2024 – ضفة ثالثة

يأتي الكتاب الجديد للباحث الإسرائيلي شلومو زند (ساند) “عرق متوهّم: تاريخ موجز لكراهية اليهود” الصادر عام 2020 (والذي صدر بالعربية عن دار مدارات للأبحاث والنشر عام 2024 من قبل المترجمين يحيى عبد الله، وأميرة عمارة) كمرافعة تاريخية من قبله لربما تبريرًا لبقائه في إسرائيل، إذ يقول: “كلّ كاتب للتاريخ مقيّد بروح العصر، وبطبيعة المكان، اللذين يحيا فيهما، وإذا كان منصفًا، فإنّه يتوجّب عليه أن يبذل جهدًا، وأن يكشف بقدر المستطاع الشحنات الذاتية التي تُرجّح موقفه من التاريخ وتصوغه”. لقد أراد شلومو من هذا الكتاب أن يقدم تاريخًا موجزًا للعوامل التاريخية التي دفعت اليهود إلى إقامة دولتهم على أرض فلسطين! وفي الوقت نفسه، كشف عن الأصول الدينية والتاريخية والاجتماعية والاقتصادية لكراهية اليهود في المجتمع الغربي المسيحي.
ينطلق شلومو من اللحظة التي بدأت فيها كراهية اليهود تأخذ شكلًا عملاتيًا، فالعيش في وسط اجتماعي يعتقد بأنّ اليهود قد قتلوا ابن إله هذا المجتمع ـ المسيحي ـ سيُنتج هويات منغلقة. وما يقصده شلومو بأنّ انطواء المجتمع اليهودي على ذاته لم يكن ناتجًا من العقيدة اليهودية، بل إنّ العقيدة المسيحية هي من فرضت ذلك على الأقلية اليهودية التي تعيش بين ظهرانيها، مستشهدًا بقول الفيلسوف سارتر بأنّ النظرة المجتمعية لليهودي ناتجة عن نظرة الآخر له. وإذ يستكمل مقولة سارتر، فيقول، بأنّ العقيدة الدينية اليهودية هي نتاج المؤسسة الدينية النصرانية المعادية لليهود. ويشرح هذه النتيجة عبر إيراد زمن التسامح الديني في الأندلس بين المسلمين واليهود والمسيحيين، حيث انفتح اليهودي على الآخر.
لم تصبح اليهودية ديانة منغلقة على ذاتها، إلّا بعد انتصار المسيحية مع الإمبراطور الروماني قسطنطين في القرن الرابع ميلادي. قبل ذلك، كان التهوّد ـ أي دخول الديانة اليهودية- متاحًا لمن هم خارج نسل الأسباط الاثني عشر ـ ففي سفر (إستِر) الذي دوّن في مطلع القرن الثاني قبل الميلاد، نجد: “وكثيرون من شعوب الأرض تهوّدوا، لأنّ رعب اليهود وقع عليهم”، فلم يكن مصطلح (تهوّد) مذكورًا قبل ذلك في الأسفار التوراتية، ثم ورد أيضًا في سفر (روت) بأنّ النبي داود يعود في أصله العائلي إلى فتاة متهوّدة؛ وهذا يعني في رأي شلومو بأنّ الانعزال التوحيدي للعقيدة اليهودية لم يكن بداية متشدّدًا، فلقد أجبرت مملكة الحشمونائيين اليهودية شعب الأدوميين في فلسطين أن يصبحوا يهودًا. يتابع شلومو زند بذكر الأخبار التي تؤكّد انفتاح العقيدة اليهودية على الآخر بعيدًا عن فكرة نقاء الدم للعرق اليهودي، فالفيلسوف فيلون الإسكندري كتب بأنّ الجميع سيعتنقون المبادئ التوراتية. أمّا المؤرّخ فلافيوس يوسيفيوس، فيشير إلى انتشار عقيدة اليوم السابع بين سكان المعمورة. أمام هذا الواقع تصبح مقولة المؤرِّخ الروماني ديو كاسيوس في القرن الثالث ميلادي مفهومة، فهو لا يعرف السبب بتسميتهم اليهود، لأنّهم ينتمون إلى أعراق شتى. وعلى المنوال نفسه في التفسير، يقدّم المفسِّر الأصيل للتوراة أوريجينس، بأنّ اليهودي ليس اسم عرق، بل اختيار عقائدي، فإذا قبل إنسان ليس من أمة اليهود منهاجهم، فإنّه يصبح يهوديًا. هذه النظرة المنفتحة تجاه الآخر المتهوّد أكّدها الحاخام شمعون بن لاكيش، الذي يرى بأنّ المتهوّد أحبّ إلى الله من اليهودي الذي كان على جبل سيناء، لأنّه آمن من دون أن يرى.
لم يكن الفرق بيّنًا بين اليهودية والمسيحية بداية، لذلك نجد الرسول بولس اليهودي الذي اعتنق المسيحية في ما بعد يصرّ على هذا الفرق. وهذا ما نجده في إنجيل يوحنا على لسان السيد المسيح مخاطبًا اليهود: “أنتم من أب هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا”. انتهت علاقة اليهود مع المسيح بأن سلّموه إلى الرومان، الذين صلبوه؛ قائلين للحاكم بيلاطس: “دمه علينا وعلى أولادنا”. بدأ الشقاق يتّسع بين اليهودية والمسيحية، التي بدأت في تنميط اليهود باعتبارهم العرق الذي لم يؤمن بالمسيح، وأن المسيحيين أصبحوا بذلك شعب الله المختار، فذهب القديس جاستن مارتر للقول: “ألسنا نحن، الذين قُددنا من حضن المسيح، العرق الحقيقي لبني إسرائيل”.
هكذا أصبح المسيحيون شعب الله المختار، وكان لا بد من أن يتم طرد اليهود من هذا النَسب الإلهي. ولولا العقيدة التي بناها الفيلسوف القديس أوغسطين، والبابا جريجوريوس، مؤسس البابوية في القرن السادس ميلادي، بأنّه من الضرورة إبقاء اليهود كشهود أذلاء، فوجودهم المهين هو الدليل الأزلي على صدق وتفوق المسيحية واتباعها الدين الحق، لتمَّت إبادة اليهود منذ زمن. كان القديس جاستن مارتر أول من تكلّم عن نفي اليهود عن فلسطين كعقاب من الله. لقد تبنّى اليهود النفي المسيحي لهم كعقيدة، فظهرت عقيدة الشتات في ثقافتهم، كرد فعل على الاضطهاد المسيحي، فهم قد ظلّوا أوفياء لعقيدتهم، على الرغم من كل ما حاق بهم من أخطار.  
لقد حدّدت التشريعات المناهضة لليهود في الإمبراطورية المتنصرة وضع العقيدة اليهودية عبر العزل والاضطهاد، لكنّها لم تصل إلى حدّ إبادة اليهود. في منتصف القرن الخامس عشر، ومع انتشار الطباعة، وظهور النزعة الإنسانوية عند المفكّرين الغربيين، ظلّت النظرة المجحفة في حقّ اليهود قوية، فالمفكّر إيراسموس، صاحب كتاب: “مديح الحماقة” عبّر عن كرهه لليهود بالقول: “إذا كان يتوجّب علينا لكي نكون نصارى جيدين أن نمقت اليهود، فإنّنا كلّنا نصارى جيدون”. ولا يختلف الأمر عند مارتن لوثر، مؤسس البروتستانتية، فعلى الرغم من وقوفه ضد الكنيسة الكاثوليكية، وإصداره كتابًا بعنوان “عن كون يسوع يهوديًا بالولادة”، وتعاطفه مع اليهود، إلّا أنّه في النهاية أعلن موقفه الواضح منهم عبر كتاب بعنوان “عن اليهود وأكاذيبهم”. أمّا فولتير المعارض الشديد للكنيسة، فقد أعلن عن رفضه لليهود، فهم وفق رأيه: “لا يعرفون كرم الضيافة، ولا العطاء، أو الرحمة. سعادتهم البالغة في إقراض الأجانب بالربا الفاحش”. لا ريب في أن نظرة فولتير قد نشأت من العنصرية، ورفض الآخر، المبثوثة في ثنايا التوراة، بالإضافة إلى أنّ التلمود لم يكن يعيب على اليهود إقراض الآخرين ـ غير اليهود ـ بالربا الفاحش. يعلّل هذه النقطة الأخيرة شلومو بأنّهم ـ اليهود ـ لم تبق المنظومات الاقتصادية والاجتماعية لهم إلّا حرفًا بسيطة للعمل فيها، وإقراض الآخرين المال. بالإضافة إلى أنّ اليهود قد توسّطوا العلاقة الاقتصادية بين أصحاب رأس المال الكبار من اللومبارديين الإيطاليين والطبقات الفقيرة، فظهروا بمظهر التاجر الحقير الدنيء.

بدأت علائم التغيير تظهر في القرن الثامن عشر بعد الثورة الفرنسية، فقد رفض روبسبير، أحد مفكّري الثورة الفرنسية في الجمعية التأسيسية للدستور الفرنسي، الأفكار السائدة عن اليهود؛ فكيف للمضطهَد أن يكون مضطهِدًا. ومن ثمّ تم إقرار القانون الذي يعطي حقوقًا متساوية لليهود مع الفرنسيين. ومع ذلك، رفض بعض قادة اليهود تلك المساواة في الحقوق، خوفًا من تقويض العادات اليهودية. لكن أكثر اليهود كانوا متحمّسين للدخول في الزمن الحديث.
اتبعت الدول الأوروبية فرنسا في منح اليهود حقوقًا متساوية مع مواطنيها، لكنّ حادثتين أعادتا تأجيج مشاعر الخوف لدى اليهود، ففي عام 1840 اتهمت مجموعة من اليهود في دمشق بخطف راهب فرنسي وخادمه السوري من أجل قتله وإعداد فطيرة عيد الفصح بدمه. هذه القضية أشعلت الصحافة والمجتمع الفرنسي ضد اليهود. وفي حادثة أخرى عمدت إحدى الخادمات لتعميد طفل يهودي بولوني مريض خُشي عليه من الموت بعد مرضه، لكي لا يموت كافرًا. عاش الطفل، وعلمت شرطة الفاتيكان بذلك، فانتزعته من أهله كي يعيش مسيحيًا. أدّت هاتان الحادثتان إلى نشوء منظمات يهودية عالمية، لكن لم تسع هذه المنظمات للانتقاص من انتماء أعضائها اليهود إلى بلدانهم الأوروبية. لكن في الوقت نفسه ظهرت دعوات ترى في اليهود عرقًا ساميًا لا علاقة له بالأعراق الهندوأوروبية يجب إبعاده عن أوروبا، حيث كان المفكّر الاشتراكي الفرنسي شارل فورييه رائد هذه الدعوة، بل نستطيع أن نعده أول صهيوني، إذ كان يرى في اليهود شعبًا وقومية، وإن لم تكن متحضرة؛ ومن أجل ذلك يجب إعادتهم إلى موطنهم (فلسطينا)، وجعلهم يعملون في (بالانسترات: عبارة عن تجمعات زراعية تعاونية) من أجل تخليصهم من أخلاقهم الربوية السيئة. لم تكن فكرة الأعراق قد توطدت بعد، لكن إرهاصاتها بدأت بالظهور في القرن التاسع عشر. وقد ساهم كتاب داروين الذي تكلّم فيه عن البقاء للأقوى في عالم الحيوان إلى استخدام هذا الطرح العلمي، وإحالته إلى تصنيف البشر إلى أعراق ثلاثة: الأبيض وأكثر من يمثّله الآريون، ثم الأصفر، وتعبر عنه شعوب شرق آسيا، وأخيرًا الأسود في أفريقيا. هذه التراتبية العرقية رأت بأنّ اليهود عرق أبيض، إلّا أنّه سامي المنشأ، وبالتالي لا يستحق الرتبة التي نالها الآريون، حتى أنّ هناك صحافيًا يدعى فيلهام مار أصدر كتابًا بعنوان “انتصار اليهودية على الجرمانية”، وقد أصبح أكثر الكتب مبيعًا، تعبيرًا عن مدى الصراع العرقي بين اليهود والأوروبيين.
كانت فكرة الأعراق البشرية ونقاء الدم موجودة في الثقافة المجتمعية للشعوب منذ القدم، لكنّ الرأسمالية التي تقوم على فكرة المنافسة حفّزت قضية الأعراق في القرن التاسع عشر، ومع التطور العلمي بدأ الحديث بجدية عن أعراق مختلفة تتجاوز التصنيفات القديمة بين أبيض وأسود. وظهرت كثير من الكتب التي ترى في العرق السامي اليهودي خطرًا على أوروبا؛ هكذا اختلطت الكراهية الدينية لليهود بالإرث الاجتماعي الاقتصادي وعلم البيولوجيا، فأصبح اليهود قتلة الإله القدامى طفيليات الاقتصاد الحديث، الذين ينتمون إلى عرق دخيل زحف من آسيا، وتسلّل بدهاء إلى عروق الدم النبيل للعالم الأبيض المسيحي، ممّا مهد للنازية أن تجد الأسباب الدينية والاجتماعية والاقتصادية للقضاء على اليهود.

في هذه الأجواء المحتدمة، جاءت قضية الضابط الفرنسي اليهودي درايفوس المتهم بالتجسّس لصالح ألمانيا التي كانت قد احتلت مقاطعتي: الألزاس واللورين، لتزيد الوضع انقسامًا، ولتكشف الكراهية تجاه اليهود في المجتمع الفرنسي، والتي تصدى لها الأديب إميل زولا بمقال جاء بعنوان “إنّي أتهم”. في خضم هذه المعمعة، ظهر صحافي سيكون له دور كبير في نشأة الحركة الصهيونية، يدعى تيودور هرتسل، وهو صحافي نمساوي حاول جاهدًا أن يجابه كراهية اليهود في أوروبا بأن يصبح قوميًا ألمانيا، إلّا أنّ قضية درايفوس كشفت له زيف هذا التمنّي، ومقدار المعاداة لليهودية في أوروبا، لذلك عكف على تأليف كتاب “دولة اليهود”، وقد صيغت فكرة هذا الكتاب لأول مرة في نصٍّ سُمّي “خطاب لآل روتشيلد”. كان هرتسل يأمل بأن يتبنّى الثري روتشيلد فكرة القومية اليهودية، وهكذا انتهت قضية درايفوس إلى ميلاد الحركة الصهيونية. وقد خطرت فكرة وطن قومي لليهود لهرتسل وهو يسمع موسيقى فاغنر التي ألهمت أيضًا القومية الألمانية!
لقد عارضت الجموع اليهودية فكرة الصهيونية، وعندما شرع هرتسل بإقامة المؤتمر الأول لها في مدينة ميونيخ الألمانية عارضه الحاخامات، حيث وقع 78 منهم عريضة تمنع إقامة هذا المؤتمر من أصل 90. وحتى عندما ذهب هرتسل إلى بازل في سويسرا طالبت أكثر من 500 طائفة يهودية بمنع المؤتمر، ولم تلق فكرة هرتسل قبولًا كبيرًا إلّا بعد الحرب العالمية الثانية وما حدث من إبادة تجاه اليهود من قبل النازية.
لا يكتفي شلومو زند بسرد تاريخ كراهية اليهود من زاوية واحدة، بل يتعدّى ذلك إلى رؤية الصهيونية التي بدأت باستخدام قضية العرق اليهودي والدم اليهودي، وبأنّهم شعب الله المختار، لحشد اليهود المتواجدين في العالم لدعم إسرائيل. هكذا تبنّت الصهيونية الأدوات ذاتها التي قُمع بها اليهود في العالم. ويعرض المؤلف تلك المفارقة فيقول: “كلّما انحسرت الكراهية التقليدية لليهود، وأصبح تصنيف اليهود بحسب العرق نادرًا وهامشيًا في أنحاء العالم؛ ازداد النقد والعداء تجاه دولة إسرائيل وممثليها”.
لصدر كتاب شلومو زَند هذا قبل ثلاث سنوات من أحداث غزّة؛ والآن مع ما يحدث من إبادة ممنهجة للفلسطينيين، هل سيكتب شلومو كتابًا بعنوان: أنقذوا الفلسطينيين من الصهيونية؟ ليست الإجابة سهلة! لكن كتاب: “عرق متوهّم: تاريخ موجز لكراهية اليهود” مهمّ جدًا، فهو يفضح تهافت أعذار الصهيونية لتبرير إقامة دولتها على أرض فلسطين ما دامت تستخدمها هي ذاتها لقمع الشعب الفلسطيني، فوضع الفلسطينيين في غيتوهات، وإبادتهم، ومنعهم من تقرير مصيرهم، واعتبارهم مواطنين من الدرجة العاشرة في دولة إسرائيل الديمقراطية! كفيل بجعل إسرائيل دولة نازية. لربما علينا أن ننتظر إميل زولا جديدًا يكتب مقالًا في الغرب: (إنّي أتهم الصهيونية) حتى يستفيق الغرب لجنايته الجديدة بحقّ الشعب الفلسطيني، فكما قال شلومو زند عن تعامل الغرب مع قضية فلسطين بأنّه لم يكن يومًا إلّا “منافقًا ومارقًا”.

https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/opinions/2024/4/6/%D8%B9%D8%B1%D9%82-%D9%85%D8%AA%D9%88%D9%87%D9%85-%D8%B9%D9%86-%D8%AA%D9%87%D8%A7%D9%81%D8%AA-%D8%A3%D8%B9%D8%B0%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%87%D9%8A%D9%88%D9%86%D9%8A%D8%A9

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑